كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمرء ما دام ذا عين يقلبها ** في أعين العين موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ** فعل السهام بلا قوس ولا وتر

يسر ن ظره ما ضر خاطره ** لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر

والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك، والظاهر أيضًا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم، وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العياد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك.
وفي الكشاف دخلت {مِنْ} في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما اشتثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلًا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول {مِنْ} فيه وفيه تأمل، وقيل: لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها.
فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال: كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] فهو أن لا يراها أحد، وروي نحوه عن أبي زيد، والستر مأمور به مطلقًا.
وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر.
واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الافضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين، وذكر أن الحفظ عن الابداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقًا للحفظ عن الإفضاء، ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز.
{ذلك} أي ما ذكر من الغض والحفظ {أزكى لَهُمْ} أي أطهر من دنس الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وافعل للمبالغة دون التفضيل.
وجوز أن يكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فانهم يتوهمون لذة ذلك نفعًا {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه عز وجل في كل ما يأتون وما يذرون.
{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن}.
فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته.
والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرم.
نعم غضها بصرها من الأجانب أصلًا أولى بها وأحسن، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه الصلاة والسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي مطلقًا، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الابداء أو مما يعم ذلك والابداء {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} أي ما يتزين به من الحلى ونحوه {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والأكليل والوشاح والقرط.
وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على موضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استقنى في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والاذن فنهي عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنًا في الحظر ثابت القدم في الحرمة شاهدًا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف، وهو على ما قال الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم: فلان طاهر الجيب طاهر الذيل.
وقال صاحب الفرائد: هو من باب إطلاق اسم الحال على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر ءلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى، وفيه بحث.
وقيل: الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن، وقال ابن المنير: الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله عز وجل: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، وأيضًا لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من ما وقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلى لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة مطلقًا فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله تعتالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لاسيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات.
ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية عبار على ثوب تجمل انتهى.
وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضًا بل قال: حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من يدها، وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة ابداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقًا في غاية البعد فتأمّل.
واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل: بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كان كشفته الريح مثلا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروي الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب، وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر أيضًا الإمام أحمد.
وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] على ما في البحر، وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقلادة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر، وعن الحسن أنه الخاتم والسوار وروي غير ذلك، ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها، وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس، والمراد في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف، وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة، قال في البحر: والأقرب دخولها في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها، والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر، والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد، وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع؛ وفي الصحاح تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه، قال الراجز:
باتت تجيب أدعج الظلام ** جيب البيطر مدرع الهمام

وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة، وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى، والمراد من الآية كما روي ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله تعالى من كتابه، وعدى يضرب بعلى على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء، وقيل معنى الشد، وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين، وقرأ عباس عن أبي عمرو {وَلْيَضْرِبْنَ} بكسر اللام وطلحة {بِخُمُرِهِنَّ} بسكون الميم، وقرأ غير واحد من السبعة {جيوبهن} بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا يجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء، وزعم الزجاج أنها لغة رديئة.
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نسائهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في إِرشاد العقل السليم.
وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم، وقيل: إنه خلاف الأولى وهو على ما قال الخفاجي: مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم بعولتهن.